السبت، 5 سبتمبر 2009

الحرية مطلب

قد لا يضيف جديدا من يقول أن الإنسان خلق وفي أصل خلقته توق للحرية والإنعتاق من ذل التبعية للآخر ونحن عندما نطلق كلمة الحرية فهي بمعنى الحرية البشرية التي لا يكون فيها لأحد من البشر سلطان على شريكه البشري في كينونته ووجوده حراً كريما يستشعر وجوده داخل مجتمع بشري أرضي يحترم جنسه ولونه وذاته ، فهي حرية جاءت بمنحة من سلطة محايدة لا صلة بينها وبين أحد بل جميع البشر في ميزانها سواسية من حيث المبدأ والنشأة ولما تقرر عقلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تستقيم هذه الشراكة التي يتمكن فيها البشر بعمومهم من التعايش بما يكفل لكل فرد منهم تحقيق كينونته وملكيته على كافة الصعد إلا بنظم وأطر تثبت جدارتها في الحيادية وعدم التعدي أو تفضيل جنس أو عرق على آخر لأي سبب كان ، إلا ما كان من مدى تقيد هذا الجنس أو العرق أو الفرد بتقنيناتها وأوامرها التي جاءت بها ، والأفضيلة بهذا ليست للعرق ابتداءً وإنما لوقوفه في الجانب الذي يحقق المصلحة المرجوة بحسب ما يرى ذلك النظام الذي يزعم حياديته وهذا مبدأ عقلي لا مشاحة فيه إطلاقاً ، وعلى هذا يخطي من يتصور بأن الحرية هي الحرية التي تنعتق من ربقة النظام الذي من شأنه قيام المجتمعات أو انهيارها ، إذ الأصل هو خلق مجتمع نوعي يحقق الدولة القوية في كل جوانبها لينعكس هذا تلقائيا على حرية الفرد والتي تختلف من فرد لآخر ، ولولا وجود النظام الذي يؤطر هذه الحرية لكان من حرية أحدهم أن يغتصب حرية الآخر إذا ماعتمدنا قانون البقاء العام ، ومن هنا فنحن نقول بالحرية المنضبطة بإطار عام يحزم الأمر في حفظ حقوق هذا تماما كما هو في حقوق ذاك ، ولا ميزة لأحد تحت مضلة هذا النظام إلا بمقدار التزامه بهذا النظام وجديَّة بالأخذ به ، وجميع ما عدى هذا من مسميات للحرية فهو مغالطات وعبث ونوازع ومنطلقات بشرية ظاهرة وباطنة هي من نتاج الجزء الحيواني في الإنسان الذي يقوم على الهوى والشهوة لا العقل والمنطق ، ولو أجلنا النظر في جميع الثورات التي قامت في العالم والتي تطالب بالحرية والأنظمة التي ثارت عليها لوجدنا أنها إنما قامت ترفض تلك الحرية الحيوانية التي تقرر فيها الحرية المطلقة حينما ساد قانون البقاء فوجد الإقطاعي أن من بدهيات حريته اغتصاب حرية الآخر وتعبيده بصورة أو بأخرى ، فهي إذا وعند التحقيق ثورة على الحرية بل وربما تقول في بعض منعطفاتها " لا للحرية " ، ولو جعلنا الثورة الفرنسية مثالا لهذا ثم نظرنا إلى فرنسا ما قبل الثورة وتحديدا في عهد لويس الرابع عشر لوجدنا أن المظهر الخارجي لفرنسا القوة المتمثلة بالصناعة والثورة الفنية الإبداعية في جميع مجالات الفنون في حين أن بقية دول أوربا كانت تقبع في ظلمات من الاستبداد الشبه فرعوني إذ أن الحال كان منقسماً بين السلطة الإقطاعية المستبدة بالتجارة والأعمال ومن سواهم إنما هم عبيد لا يرقون لمجرد التطلع إلى تلك الطبقة ورفاهية العيش التي كانت ترفل فيه ، والسلطة الكهنوتية التي استبدت بالرأي والصحة المطلقة والقداسة في أرهب صورها لكل ما تريد الكنيسة وهاتين السلطتين يلتقيان فيما بعد وخلف الكواليس لاقتسام الناتج من الربح المالي والإجتماعي الآتي عبر نفوذ السلطتين
أما في فرنسا فقد كان الحال وكما قلنا في عهد لويس الرابع عشر مخالفا نسبيا لما كان عليه الجيران فالنهضة الصناعية والثقافية كانت على أشدها حينئذ وكان ثمة حيز من الحرية لا بأس به يتمثل بانتشار الكُتَّاب والمنظِّرين والفنَّانين والنقَّاد والحراك الثقافي الحواري الفكري والتشكيلي العلني في المقاهي والصالونات ، إلا أنه ورغم اختلاف نطاق الحرية بين الجيران يبقى أن الحرية المعنية هناك هي تلك الحرية التي تنطلق من منظور بشري أيضاً لا يمكن بحال من الأحوال اعتقاد الحيادية فيه وفي قراراته ورؤاه منطلقاتها وأهدافها ، وليس أدل على هذا من وجود الطبقات الثلاث والتي تحاط بهالة من القدسية والخطوط الحمراء التي لا يمكن أن يتجاوزها مريد الحرية من دافعي الضرائب التي أعفي منها أفراد تلك الطبقة ، فالرؤيتين كلاهما تبرر أعمالها بحجة الحرية لكنها في بريطانيا ومن لف لفيفها تقوم على الحرية المستبدة أو بمعنى أصح الغابوية أما في فرنسا فهي كذلك تدعي الحرية لكنها تجمع بين المنظور الشخصي الغابوي الأناني وبين إرادة قيام الهيكل الكبير الذي لابد فيه من منح الآخر متسعا يفكر فيه وينتج ، وربما كان على كواهله – أعنى الآخر – الجانب الفعلي من إقامة الهيكل والمجتمع الكبير في حين تتفرغ السلطة لملذاتها ومباهجها ، والحقيقة أن هذه النوعية من القيادات المستبدة أذكي من صويحباتها حين تلقى بعض العظام للكلاب الضالة تنشغل بها عما في المائدة وتأمن مافيها من خطورة وربما استحالت في وقت لاحق إلى حماية فعلية لمن ينفردون بالمائدة .
إلا أن الحريتين هنا لا تقوم على أساس محايد فهي وان اتسعت في فرنسا وازدهرت فيها الأضواء الفكرية في العلوم والفنون والصناعات تبقى حرية هشة قد ينقضها من أساسها تعارض مصلحة الهيكل مع المصلحة الشخصية لمانح الحرية ، ومن هنا جاء فولتير وهو معلم الليبرالية والمنظر لها ليخرج بمفهوم آخر للحرية ينفر فيه من مظنة عدم المحايدة التي جلبت على فرنسا ربقة الطبقات الثلاث فجعل العقل والمنطق هما الحاكم الفعلي ومحل فض النزاع بين المتخاصمين حيث يقول : ( يجب أن نحترم أولئك الذين يحكمون عقولنا بقوة الحقيقة، وليس الذين يستعبدون الناس بالعنف، وأولئك الذين يفهمون الكون، وليس الذين يحرّفونه) وعلى هذا ظهر للحرية منظور آخر وزاوية أخرى ينظر من خلالها لمعنى الحرية الذي هو بطريقة أو بأخرى توافق العقل الجمعي في زمن من الأزمان على مسلك بعينه ، وهو منظور جميل وهو أقوى من سابقه ولا شك .. ولكن هل هو المناسب إذا ماكان الهدف عمارة حضارة بأكملها يتخللها أجيال وأجيال من أجناس وأعراق ومعتقدات شتى ؟ .. سننظر ونرى ..
بعد فولتير وتنظيره وقيام الثورة واحتزاز رأس لويس السادس عشر وتحالف أوربا المظلمة ضد فرنسا التنويرية الوليدة وتململ بعض أفراد الرعية وَجَدَ من قام بالنهضة والليبرالية الجديدة أنفسهم في صدام مع مبادئهم التي لم يجف حبر توقيعها بعد وكان من نصوصها ( تنص الحرية على حرية القيام بأي شيء لا يؤذي أحداً غير من يقوم به) ولما كان هدفهم الحفاظ على ما يزعمون أنه مكتسبات قومية تقدمية وجدوا أنفسهم في عنق زجاجة ضيق ليس فيه للحرية التي ثاروا من أجلها محل فهي إما الحضارة وفق منظوري وقناعاتي أنا للحرية أو التخلف والرجعية والتي أظنها أنا في ما يريده الآخر من الحرية ، فكانت النتيجة أنهم صاروا يأخذون الناس  بمخالفتهم لأنا السلطة حيئنذ ولمجرد الإشتباه وشكوك السلطة الأنانية اعتمدوا مبدأ " من ليس معي فهو ضدي " وبالتالي لا مانع من أن يصل عدد من " ضدي " تحت المقصلة في نصف ساعة فقط ما يتجاوز الثلاثين ممن لا يرون برأيي وفيهم أيضا من يمارس الذي ظن أنه حق مشروع له كونه أحد أفراد العقل الجمعي ، وهكذا وبعد حروب طاحنة يجدون أن ما كانوا يلهثون خلفه إنما هو كذبة وزيف استغلتها إحدى الطبقات الثلاث التي حجبت عنها امتيازاتها المقدسة فاقنعت الشعوب ليكونوا كبش فداء لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، ولتدارك الأخطاء وجب أن يدخلوا في دوامة حرب أهلية أخرى تأكل الرطب واليابس لا يجدون الخلاص منها إلا على يد ذلك الفارس الشاب نابليون والذي اكتشفوا زيفه فيما بعد واستبداده وكذبه فيما حكى عنه من حرية ومساواة لاسيما من احتكار السلطة في ايطاليا والراين وسويسراء واخوته في البرتقال وهولندا واسبانيا ونابولي واقليم ڤستفالن وهكذا حدِّث عن شارلي ديقول ولا حرج في اغتصابه للآخر الجزائري والآخر الشرق متوسطي والآخر الجنوب أفريقي وفق عملية هي أشبه ما تكون بمص الدماء وتجفيف العروق وحرق الأرض بامتصاص خيراتها التي هي في الأساس ملك الآخر الذي كان بالأمس القريب يصفق للأنوار الباريسية ويحلم بها وربما أحاطها بهالة من القداسة ونظم فيها الأقاويل ثم تغنى بها ، وهكذا يكون الحبل على الجرار فيمن تبعه إلى يومنا هذا ، فكلها حريات ليس لها من الحرية إلا اسمها تنطلق من منظور بشري إقصائي قاصر غلفوه بشرعية التحاكم العقلي في التنظير لكنه أبداً لن يكون كذلك على أرض الواقع حينما يصدم بحرية الآخر .
وإذا سنجد أنه من السهل جدا أن ننظر على الورق قوانين لا محل لقيامها إلا ما كان منها في الأحلام الوردية ، وحالما تحاول التهادي على أرض الواقع ، ستتعثر بكون متلاطم الأرجاء يعج بمختلف التوجهات والمشارب التي لا يمكن للعقل بحال من الأحوال مجابهتها ، الأمر الذي سيضطر القائمين عليها ومدعيها للكشف عن إنسانيتهم البسيطة المتهالكة والإذعان لقانون أكبر من عقولهم وهو قانون البقاء ، وهنا لا محل إلا لقانوني أنا وحريتي أنا ورؤيتي أنا .
وهكذا نجد أنَّا سنستمر في اللهاث خلف سراب كاذب تماما كفأر على عجلة مختبر إلا أن العجلة هنا يغذيها دماء تراق وأشلاء تمزق وأيتام وثكلى وذكريات هي في غاية البؤس ودوامة من العنف لا نهاية لها يأكل فيها القوي الضعيف .
المخجل أنك لا تزال تجد بعض القشوريين هنا وهناك مازالوا يتمسكون بجدوى إقامة العقل الجمعي ليس للقياس والنظر والتأمل والاستنباط وفق نظام ثبتت حياديته قيدت به وأُطرت عليه ، وإنما كحاكم أصيل يرجع إليه حال نشوب الخصومات وهؤلاء وإن كان يشفع لهم كون الناس فيما يعشقون مذاهب شتى ، إلا أنه يقابلهم منطق آخر هو شريك لهم ، وله مذهبه أيضاً الذي يعشقه ويبرره وفق ماتراه " أناه " ، وهذا المنطق يقول أن حياتي ليست محلا لتجاربكم التي أثبتت فشلها وكان وقودها بشر مثلي ومثلكم إلتهمتهم طاحونة العنف الذي أشعلتموه جريا لإثبات ما لن يثبت .
فهذه حاملة اللواء الليبرالي وهي محط الأصبع في هذا المجال نجدها توزع هبات الحرية الوردية وترسي قواعد ينعم فيها البشر " الآخر " بمساواة تجعل الناس أمام قانون مدفعها كأسنان المشط لا فرق لأفغاني على عراقي إلا بمقدار ما يحصل " الأنا " الأمريكي وربما استحال هذا المُمَيَّز في المنظور الليبرالي إلى رقم زائد يتم التخلص منه بعبوة ناسفة زرعها إرهابيون مجهولون أو سقط بالخطأ من نيران صديقة
وربما يتعلل هؤلاء المفتونون بكونهم نجحوا في تحقيق الحرية والرفاهية للفرد داخل مجتمعاتهم وأقاموا هياكل مجتمعية تصلح للإستمرار لعقود قادمة ، كل هذا مما لا ينازعهم فيه أحد وقد فعل شارل قبلهم في فرنسا مالم يفعلوه هم لمواطنيهم وبلدانهم ، وإنما السؤال كيف قامت هذه الهياكل ؟ وعلى أنقاض وحساب من حتى زهت وعظمت وكبرت في صدوركم ؟
لسنا نحاسبهم على ما نركن إليه ونعتقده ، وإنما هم الذين يدعون أن الناس إنما تلدهم أمهاتهم أحرارا ، وأن أي أحد له أن يقوم بأي شيء شريطة ألا يؤذي غيره ، في حين أننا لا نرى أن من يستحق هذه الحريَّة ولا أن يتعلم ولا أن يروج بضاعته في الأسواق ولا أن يحلم بنهضة إقتصادية أو صناعية بعيداً عن المتنفعين من عرق بعينه وربما كان معتقدا بعينه لو دققنا في التفاصيل .


فهل أنظمة بهذا القدر من الزيف الظاهر الفحش تصلح أن تكون مثالا يحتذيه الآخر ؟ أو حتى محلاً للإستشهاد به ؟
إذ أن الحال ومن خلال منطوقهم إما أنهم يقولون مالا يفعلون وأن الحرية التي يتحدثون عنها لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت فيه
أو أن الناس المعنيون في خطبهم وقوانينهم وحرياتهم هم فقط ذلك العرق أو تلك الفئة والطائفة التي تعتقد ذلك المعتقد وبكل الأحوال لا أظن أن نظاما كهذا يستحق مجرد الإحترام حتى من معتنقيه إذا ما نظروا لأنفسهم بعين الإنسان المتحرر من ربقة شهواته الحيوانية والذي يحترم كونه إنسان يجب أن يرتبط فعله بقوله
وهكذا نخلص إلى أرضية يجب التسليم بها ، وهي أن العقل الجمعي يصلح للنظر في الاشياء واستخلاص العبر منها والإستئناس به وربما اللجؤ له في حال دقيقة جدا لا تشكل المعلم الأبرز في عموم المطلب مع عدم اعتقاد صوابيته ، إلا أنه لا يمكن يقينا بحال من الأحوال أن يكون حاكماً أصيلا ، وهو وأن كان مظنة الحيادية فقد أثبت فشله الذريع وسقوطه المدوي عند التجربة على أرض الواقع ، والتي كشفت مدى هشاشته وضعف مقاومته لسنن الإختلاف الكونية على المستوى الانساني وإيجاد الحلول المناسبة للتعامل مع هذه الأحوال وضمان التعايش البشري تحت مضلة الكرامة الانسانية بمفهومها الشامل لا النظرة المحدودة الضيقة لعرق أو لجنس وهذا مالم ولن يتحقق في مطلب الحرية إذا كان الحاكم فيها ومانحها لا ينظر على مسافة بعدية واحدة من عموم الجنس البشري محققا بهذا مفهوم الحيادية بأعمق صوره


واذا وعلى هذا : هل الحياديَّة مطلب ؟
هذا ماسننظر فيه فيما بعد .


عمر... 24/1/1431هـ



















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق